ملف زيارة البابا |ايليا امامي
Ailia Emame:
♦️ملف_زيارة_البابا
بسم الله الرحمن الرحيم
( ملف حول زيارة بابا الفاتيكان الـ266 الى العراق )
بعد أنتهاء زيارة البابا فرنسيس الى العراق ، أسجل بعض الملاحظات حول المحطة الأكثر أهمية في رحلته ، وهي زيارته للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني ، التي تعتبر ( الكلمة المفتاحية في زيارة البابا ) بحسب مقال دانييل فيردو في صحيفة إل باييس الأسبانية.
ولفهم الحجم الحقيقي للحدث الذي تابعناه ، و أبعاده المختلفة ، سنضع الملاحظات ضمن المواضيع التالية :
أولاً : من هو الضيف ؟
ثانياً : من هو المُضيف ؟
ثالثاً : أثر الزيارة على الطائفة الشيعية .
رابعاً : أثر الزيارة على العراق .
خامساً : ماهو مشروع مسار إڤراهام ؟
♦️ملف_زيارة_البابا ( 1 )
أولاً : من هو الضيف ؟
1. يعتبر البابا الأرجنتيني الأصل خورخي ماريو بيرجوليو هو البابا الـ 266 للكنيسة الكاثوليكية ، ويحظى بشعبية كبيرة في الوسط المسيحي ، بحيث يعتبر ( المجمع الانتخابي المغلق ) الذي قام بانتخابه للبابوية ، من أقصر المجمعات في تاريخ الكنيسة ، مما يدل على الاتفاق المسبق حول شخصيته ، وأنه الخيار الأنسب بعد استقالة سلفه البابا بندكت السادس عشر .
2. منصب البابا هو أرفع منصب مسيحي في العصر الحالي ، وتضفى عليه ألقاب كثيرة تدل على مكانته ، كممثل المسيح على الأرض ، وخليفة بطرس أمير الرسل ، وأسقف روما الأكبر ، وسيد دولة الفاتيكان ، والحبر الأعظم ، وغيرها من الألقاب البابوية .
3. يعتبر البابا من أقوى الشخصيات العالمية تأثيراً ( روحياً وثقافياً وحتى سياسياً ) على 1.3 مليار كاثوليكي ، يشكلون ما نسبته 17% من البشر ، و ما نسبته 51% من المسيحيين في العالم ، وفي الولايات المتحدة يشكلون نسبة 24% من السكان ، بينما يشكلون الغالبية العظمى من المسيحيين في أمريكا الجنوبية .
4. تعد الكنيسة الكاثوليكية أكبر مؤسسة للتعليم والرعاية الصحية في العالم وتنشط بشكل كبير في الدول الفقيرة والنامية ( وهذه نقطة يجدر التركيز عليها ).
5. البابا الحالي معروف بالنزعة الإصلاحية والانفتاح والعمل للفقراء ، ومنذ اليوم الأول لتنصيبه خالف الكثير من الأعراف الكنسية ليكون مندمجاً مع الناس ، ويوقف خسارة الكنيسة للمزيد من الأتباع ، وهو ( البابا القادر على إحداث تغييرات مهمة في الكنيسة ) بحسب وصف البروفيسور اللاهوتي الألماني هانز كونز .
6. لم يصدر منه موقف لافت ضد السياسات العالمية ولصالح الشعوب المحرومة منذ بداية حبريته قبل 8 سنوات وحتى الآن ، وإنما يكتفي _ على طريقة الكنيسة _ بكلمات مختصرة وفردية ، كما حصل في أربيل عند لقائه بوالد الطفل الغريق إيلان كردي الذي جرح ضمير العالم سنة 2015 بصورته المأساوية مرمياً على رمال ساحل البحر ، حيث قال البابا لوالده ( إن موت ولدك دليل على حضارة تحتضر ) .
7. يدل اختياره لقب ( فرنسيس ) بوضوح على نزعة الاهتمام بالفقراء ، فقد صرح أنه متأثر بالقديس المدافع عن الفقراء فرنسيس الأسيزي ( قبل 1200 سنة ) وصرح كذلك بأنه يريد ( كنيسة تهتم بالفقراء ) وهذا طبيعي بملاحظة نشأته في الأرجنتين التي تعاني أوضاع اقتصادية صعبة استطاع البابا تحسسها منذ كان رئيس أساقفة بوينس آيرس ( عاصمة الأرجنتين ) حيث تخلى عن المنزل الرئاسي الذي توفره الكنيسة لرئيس الأساقفة ، وسيارة 1. الليموزين وسائقها الشخصي ، مكتفياً بالسكن في شقة صغيرة والتنقل بالمواصلات العامة .
8. أغلب المواضيع الجدلية التي تطال باباوت الكنيسة المتأخرين وأكثرها حدة ، لا علاقة لها بمواقفهم السياسية كما يحدث عندنا في الشرق الأوسط ، بل تتعلق بمواقفهم تجاه الاجهاض والحمل الاصطناعي والزواج المدني للمثليين والقتل الرحيم ( للمرضى ) ، و جرائم التحرش الجنسي بالأطفال التي دوماً ما تنال بعض رجال الكنيسة ، ويجد البابا نفسه وسط عواصف من الجدل الانتقادات تتداخل فيها أطراف ليبرالية و دينية ومنظمات وجمعيات وكنائس من مختلف التوجهات ، مع الإشارة أن هذه القضايا لا تأثير حقيقي لها على الزيارة الأخيرة للعراق ( باستثناء موضوع زواج المثليين ).
9. موقف البابا من ( زواج المثليين ) كان هو الموضوع الأكثر جدلاً ، حيث أعاد فيلم وثائقي صدر عن حياته مؤخراً القضية الى الواجهة ، وبسبب هذه التصريحات فقد هاجمه الكاردينال الأمريكي رايموند بورك المعروف بمواقفه السلبية من البابا فرانسيس قائلاً عنه : ( يذرّ الارتباك في أوساط الكاثوليك ويثير حيرتهم ) وألقى هذا الجدل بظلاله على المتابع العراقي وتداولته بعض مواقع التواصل قبل أربعة أشهر ، وقد كان وقتاً محرجاً للبطريركية الكلدانية العراقية ، التي تعيش أجواء التحضير للزيارة ، مما اضطرها لإصدار بيان توضيحي ورد فيه : ( البابا لا يستعمل مصطلح الزواج للمثليين البتة ، البابا طالب المجتمع المدني والعائلات برعاية المثليين ومحبتهم وحمايتهم، ولم يقل أن يكوِّنوا أسرة ، أما عن قوله أن الجميع هم أبناء الله ، فهذا يعود الى أن الله خلق الانسان فهو بالتالي إبنه )
10.
رغم استئصال جزء من رئته سابقاً ، ووجود خشية من إصابته بفايروس كورونا ، خصوصاً مع إصابة سفيره ليسكوفار الذي سبقه الى العراق ، ورغم المخاطر الأمنية في العراق ، والمواجهات التي سبقت الزيارة بين المتظاهرين والقوات الأمنية في ذي قار ، فقد أصر البابا على رحلته الرسولية ، مما فتح الباب واسعاً للتكهنات والتحليلات لدى بعض الأطراف العراقية المتوترة دائماً ، حول أبعاد هذه الزيارة ومقاصدها الخفية ، ولكن بملاحظة 33 رحلة رسولية سابقة قام بها البابا خلال حبريته الى ( أطراف العالم المسيحي ومجتمعاته الأقلية ) منذ توليه المنصب عام 2013 ، يمكن فهم زيارته الى العراق في سياقها الطبيعي ، وهو الحفاظ على الوجود المسيحي الغارق وسط الصراعات ، والذي بدأ يتلاشى في الشرق الأوسط ، ولكن يبقى المختلف الذي جعل هذه الزيارة توصف بالتاريخية ، هو ( السيستاني ).
♦️ملف_زيارة_البابا ( 2 )
ثانياً : من هو المضيف ؟
1. السمة البارزة بشكل واضح لدى آية الله هي حكمته في التعاطي مع الأمور ، وقدرته على ضبط القرار وتحمل أقسى أنواع الضغوط ، وهو ما سمع عنه البابا فرنسيس قبل زيارته ، ولكنه أظهر تأثراً كبيراً بعد الزيارة حيث قال في مؤتمره الصحفي في الطائرة ، خلال رحلة العودة الى روما : ( وجدته رجلاً عظيماً وحكيماً وكان رجل الله ، يمكنك إدراك ذلك بمجرد الاستماع إليه ) ، وهذا كلام رجل يتجاوز عدد أتباعه أكثر من عشرة أضعاف أتباع آية الله ( مقلدوه ) ومع ذلك فقد وقف البابا كالتلميذ أمام معلمه وهو يستمع اليه .
2. تواضع آية الله كان سمة أخرى أشاد بها البابا فقال في مؤتمر العودة : ( كان محترماً جداً في الاجتماع ، وكان متواضعاً لا يتعالى ، وقد نهض لمرتين لأجل تحيتي ) وهو يشير الى القيام الأول لاستقباله ، والقيام الثاني المتعارف في البيوتات النجفية حيث يجلس صاحب المكان متزامناً مع جلوس الضيف ، ثم ينهض مرة أخرى ليقول : صبحكم _ أو مساكم _ الله بالخير ، ويبدو أن هذه الطريقة أثرت في البابا .
3. باستثناء شجرتين وحمامتين تدل على الخضرة والسلام ، فقد حرص آية الله أن تكون الزيارة بسيطة وخالية من التكلف ، و من دون إدخال أي تعديلات في منزله المتواضع الذي يستأجره من عائلة آل شبر النجفية ، ليرسل بذلك رسالة الى العالم _ الذي يراقب _ حول مشاعر المواساة ، و تعاطف القادة الدينيين الحقيقيين مع الشعوب المحرومة ، وتركيزهم على الجانب الروحي والانساني في زمن التنافس المادي ، وهو ما فهمه البابا جيداً وقال في مؤتمر العودة ( هذا اللقاء أفادني روحياً ).
4. يلاحظ المهتمون أن لدى آية الله نمط واضح في تعاطيه مع الإعلام ، فهو يكتفي دوماً بالظهور الإعلامي الأقل ( الذي لابد منه ) مما قاد وفد الفاتيكان التحضيري الذي سبق زيارة البابا الى التفاوض مع مكتب آية الله حول هذا الموضوع ، وطلبوا فتح الباب للأعلام على مصراعيه ، معتبرين زيارة البابا ليست كأي زيارة ، وأنها فرصة لتسليط الضوء على منزل آية الله وتواضعه وتعريف العالم بهذا الرجل الروحاني ، حيث أن الصحفيين المسجلين ضمن رحلة البابا لوحدهم ( 150 صحفي ) ناهيك عن الجيوش الإعلامية المراقبة للحدث ، إلا أن المكتب أصر على عدم الخروج عن النمط السابق ، حتى أن آية الله قد تعمد _ في الفيديو الأول الذي شاهده العالم _ الصمت حتى إنهاء التصوير وخروج الصحفيين .
وفي تقديري أن الرفض المتكرر من قبل آية الله للظهور عبر الإعلام ، مهما كثرت وأختلفت تفسيراته ، يبقى مفهوماً بسيطاً يمكن اختصاره في كلمة واحد ( آية الله من النوع العملي الذي يتصرف وفق مبدأ المصلحة الدينية ، وهو لا يجد أي مصلحة دينية في الظهور الإعلامي ، ولم يجد _ حتى الآن _ سبباً يقنعه بخلاف رأيه ).
5. لاحظ المتابعون للاستقبال غياباً تاماً للحضور الديني ( الحوزوي ) ، وكثرت التساؤلات حول ذلك ، وفي تقديري أن الأمر يعود الى تركيبة الحوزة العلمية والمؤسسة العلمائية ، التي حرصت منذ مئات السنين على حفظ التوازن بين وحدة وتماسك الموروث الفكري والعقائدي الذي يجمعها ، والتأكيد على التعددية العضوية وعدم الوقوع في فخ الهرمية القيادية ، مما يجعل رأس الهرم وكأنه الإمام المعصوم.
وبتعبير آخر فقد حرص آية الله _ رغم كونه المرجع الأعلى _ على عدم جمع المرجعيات الأخرى في منزله وتقديم نفسه كرأس ( وحيد ) لهذه الطائفة في مقابل رأس الكاثوليكية الذي يزوره ، وفي ذات الوقت لم يستقطع السيستاني جزءا من الكيان الحوزوي ويجمع بعض أساتذة الحوزة وينسبهم الى نفسه ليقدمهم كوفد استقبال ، وهو يدرك جيداً مدى التأثير المعنوي لتصرفاته على الأعراف الحوزوية .
هذا ، مضافاً الى التعبير الذي استخدمه الفاتيكان _ قبل وبعد الزيارة _ وهو ما ورد في بيان الزيارة بوصفها ( زيارة المجاملة التي استغرقت خمسة وأربعين دقيقة ) مما يخفف أعباء الاستقبال ، لكونها زيارة ذات طابع شخصي ، وتعتبر _ لدى الطرفين _ استثناءاً لابد منه في الرحلة الرسولية ، لتقديم الشكر الى آية الله ، وليس لدراسة مشروع مشترك بين الفاتيكان و المؤسسة الدينية في النجف ليكون هناك حضور رسمي للطرفين .
وهو ما يفسر _ ربما _ خلو البرنامج من فقرة خاصة بزيارة مرقد الإمام علي بن أبي طالب ، الذي يبعد مكتب آية الله بضعة أمتار عنه ، لأن زيارة المجاملة بحد ذاتها كانت استثناء .
وأكرر ، أن هذا تقديري ومحاولتي المتواضعة لقراءة الحدث .
6. وجود الأستاذ حامد الخفاف وكيل المرجعية العليا في لبنان _ ذي التنوع الطائفي _ كممثل وحيد عن مكتب آية الله في استقبال البابا وتوديعه ، ربما ينطوي على عدة ملاحظات :
* حيث أن الخفاف يمثل أحد أهم الوجوه البارزة لعلاقات مكتب آية الله بالمكونات والأطراف الأخرى ، فقد كان وجوده في هذا الاستقبال تعزيزاً جيداً لموقعه على نطاق أوسع .
* الرجل هو المعني الأول بتدوين مواقف المرجعية وبعض يومياتها المفصلية وتقديمها للجمهور ، كما في كتابه ( الرحلة العلاجية ) وكتبه وحواراته ومقابلاته الأخرى ، فيمكن القول أن وجوده في قلب الحدث ، يعني أن قلمه بدأ من الآن بتدوين أدق تفاصيل هذه الزيارة للتاريخ ، منتظراً _ أو منتظرين _ الوقت المناسب لنشرها .
* الطابع الديني للزيارة لا ينسينا أن الفاتيكان دولة ذات مقومات سياسية وتمثيل دبلوماسي ، وهي في وسط تجاذبات الشرق والغرب منذ الباباوات السابقين ، بل وكان لها دور معروف في مواجهة المعسكر الشرقي أبان حبرية البابا يوحنا بولس الثاني ، والبابا هو رئيس هذه الدولة ، مما يعني أن الأعراف والعادات التي درجت عليها النجف ، قد لاتسمح بتصدي رجال الدين لمهمة الاستقبال والتوديع أو ما يسمى ( التشريفات ) ، ولذا لحظنا عدم تصدي الدائرة القريبة من آية الله ، كنجله الأكبر السيد محمد رضا ، والوكلاء المعروفين كالشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد أحمد الصافي وغيرهم .
♦️ملف_زيارة_البابا ( 3 )
ثالثاً : أثر الزيارة على الطائفة الشيعية .
1. بعيداً عن الأرقام المتضاربة حول عدد الشيعة الإمامية في العالم ، وتوزعهم الديموغرافي ، واختلاف توجهاتهم ، إلا أن تركيز وسائل الإعلام انصب في العقود الثلاثة الأخيرة على استخدام تسمية ( الشيعة ) مقترنة بالنشاط السياسي والعسكري للجمهورية الإسلامية في إيران ، وحزب الله في لبنان ، واختزل _ بإيقاع إعلامي موحد _ كل الطائفة الشيعية في الحديث عن الملحقيات الثقافية للجمهورية الإسلامية وخططها لنشر التشيع ، فأصبحت كلمة ( شيعة ) تساوي في نظر الرأي العام القوة الناعمة لإيران التي تستغل العقيدة الشيعية .
إن الاهتمام الإعلامي الذي رافق الزيارة الأخيرة ، كفيل بالمساعدة على تصحيح هذه الفكرة المغلوطة ، وهذا الطريقة المتعمدة في النظر للطائفة ، ونأمل أن تمنح حتى العراقيين والإيرانيين رؤية أوسع للمذهب بكل تنوعاته .
2. منذ اللحظة الأولى لإعلان برنامج الزيارة ، حاول الكثيرون خلق فجوة مصطنعة مفادها بتعبيرهم ( التشيع المعتدل في النجف والتشيع المتطرف في إيران ) ، وكان أحد الأسئلة وجهت التي البابا في مؤتمر العودة : ( هل هذه الزيارة بمثابة رسالة الى إيران ؟ ) فأجاب البابا : ( كانت رسالة إيمانية عالمية ) .
وقد قوبلت هذه المحاولة بتعقل وحكمة من غالبية الجمهور الشيعي المتابع للحدث ، باستثناء بعض الأقلام غير المنضبطة التي سنشير إليها لاحقاً.
و هنا نأمل أن لا يقع بعض المتحمسين للعراق في مطب النيل من المباني الدينية التي تحكم الجمهورية الإسلامية كما حصل العكس من بعض المتحمسين لإيران ، فإن هذا البحث علمي وديني بامتياز وليس مباراة كرة قدم ، ومن يدخله بشحنة تعصب سياسي أو عاطفي ، سيقع في الأخطاء لا محالة .
3. منذ رحيل السيد روح الله الموسوي الخميني عام 1989 ، كأحد عظماء الثورات في القرن العشرين ، وحتى بروز إسم السيد علي السيستاني عام 2003 على الساحة العالمية بشكل لافت ، كانت وسائل الإعلام تظهر شخصية واحدة تستحوذ على الخطاب الاسلامي الموجه الى الغرب ، وهي ( أسامة بن لادن ) الذي يرى اللغة الوحيدة للتفاهم من الغرب هي لغة القتل للمدني والعسكري على حد سواء ، وأصبح من الغريب على النخب الغربية فضلاً عن عامة المجتمع ، سماع زعيم ديني له ثقل معنوي من خارج الدولة كالسيستاني ، يتكلم عن الديموقراطية وحق تقرير المصير للشعب ، ويحرج الولايات المتحدة بإسقاط كل ذرائعها بأسلوبه العقلاني ، ويجعل الأمم المتحدة لا تملك خياراً إلا الاستماع إليه والوقوف بجانبه .
وقد جائت هذه الزيارة كجزء من ثمار صبره ، وصبر الغالبية العظمى من الطائفة الشيعية ، فمنذ 17 عاماً وحتى الآن ، حاول هذا الراهب الروحاني نبذ العنف وترسيخ الأخوة حتى في أقسى الظروف التي مرت بها الطائفة الشيعية من قتل ونهب وتدمير لمقدساتها ، وكان لابد لهذا الصبر أن يثمر ، ولهذا الصوت أن يصل صداه الى العالم .
4. في اللحظة التي وضع فيها البابا قدمه داخل زقاق مكتب آية الله بدأ السؤال يطرح بنطاق أوسع ( من هم الشيعة ؟ ) ، وهذه الأسئلة تتطلب أجوبة لائقة ، وهي على عاتق أبناء الطائفة الشيعية الذين يعيشون _ بأفرادهم ومؤسساتهم _ وسط مجتمعات أخرى تريد التعرف عليهم ، ولو لمجرد التعرف والفضول ، فالجهل بالآخر أساس المشاكل الاجتماعية .
وقد كان خطاب البابا رغم اختصاره رائعاً في وصف ما قدمه الشيعة وكافياً لإثارة الفضول حولهم ، بقوله : ( وكان اللقاء فرصة للبابا لتقديم الشكر إلى آية الله العظمى السيستاني لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الأخيرة ، دفاعا عن الأضعف والأكثر اضطهادا ، مؤكدين قدسية الحياة البشرية وأهمية وحدة الشعب العراقي )
من الجيد أن يحظى الشيعة في العالم بفرصة جيدة للتعريف بأنفسهم ، مع التأكيد على أنهم ليسوا في صدد المنافسة مع بقية المذاهب الاسلامية ولا محاولة التمدد على حسابها ، لأن الشيعة بالاساس لا يؤمنون بمشروع ( تشييع العالم ) بل هم مهتمون بالتعريف عن أنفسهم لمن يسأل ، ودفع الشبهات والاتهامات الباطلة عن عقيدتهم .
فلا بد من تجنب إستهلاك الجهد في دوامة النقاش العقيم مع التيار الوهابي الذي يستفزه الوجود الشيعي مهما كان شكله .
5. يعرف المتابعون أن الكثير من مراكز الاستشراق قد انخرطت منذ سنوات في تأسيس خطاب شيعي يقدم للشباب في قوالب جديدة ، وينسجم مع البنية الفكرية الحديثة التي تغذيها مواقع التواصل تحت شعارات التنوير والتجديد ، كبديل عن الخطاب التقليدي الذي يقدمه علماء الدين .
ومن أبرز المبررات التي يتم طرحها ، عدم قدرة الطائفة على مجاراة التطور الزمني والاندماج مع العالم بوضعها الحالي ، وتمسكها بالموروث الروائي والمرجعيات الدينية .
وجائت هذه الزيارة التي فرضت نفسها وأجوائها الإيجابية على الواقع ، وشهدنا الاحتفاء الكبير بها من مختلف الشخصيات العالمية ، وكيف اشتغلت محركات البحث على الأنترنيت متسائلة عن سبب ذهاب البابا الى ذلك البيت المتهالك ، ليعرف الشاب الشيعي قبل غيره ، أن طائفته ليست في قطيعة مع أحد ، وأن الاندماج والتعايش لن يكون بالضرورة على حساب إرثه الحضاري ، أو التخلي عن نظام المرجعية الذي صمد لألف عام ، وعُرف قادته بحسن تدبيرهم ، ووعيهم للمتغيرات الزمنية وكيفية التعاطي معها.
هذه الزيارة قد حسم أمرها من الناحية التاريخية ، فقد أضيفت الى اللحظات المهمة التي ستتكلم عنها الإنسانية ، لكن إستثمارها في الوقت المنظور أو البعيد يبقى كفيل بإرادات المتصدين لمواقع المسؤولية ، وكل بحسب موقعه .
♦️ملف_زيارة_البابا ( 4 )
رابعاً : أثر الزيارة على العراق .
1. شعور مكون يمثل الغالبية من أبناء البلد وهو ( المكون الشيعي ) بالفخر والاعتزاز ، لأن هذه الزيارة كانت رداً للجميل وشكراً لمواقفه في حماية الأقليات المسيحية ، وقد كان ولا يزال على هذا الموقف الوطني ، وهو ما يزيد الأغلبية إصراراً على التعايش السلمي.
2. طالب بعض نواب المكون السني في البرلمان أمثال محمد الكربولي ومثنى السامرائي وآخرين، أن تكون هناك حصة من الزيارة الى المجمع الفقهي السني ، كتلك التي حصل عليها المكون الشيعي .
وبعيداً عن النوايا الواضحة لاستثمار هذه الزيارة سياسياً وانتخابياً ، إلا أن ردود أفعال المكون السني كانت تنم عن وعي ، وتصب في مصلحة التعايش الأخوي ، حيث اعتبروا هذه المطالبات ( مهينة بحق المكون ) وأن البابا ضيف العراق حيثما توجه .
3. إن تطوير العلاقات مع الفاتيكان بشكل مدروس ، قد يساعد على تحسين الوضع الدبلوماسي للعراق في العالم ، ويسمح بحضور أفضل دولياً ، وقد يساعده على استعادة بعض حقوقه المسلوبة من البحر الى المدارات الفضائية ، كما يمنحه مبادرة أقوى إقليمياً ، وبالذات دوره الإيجابي بين أميركا ذات التهديدات الجنونية ، و الأخ والجار ( الجمهورية الإسلامية في إيران ) .
4. كسر الصورة النمطية للعراق المنفلت أمنياً ، وقد بدأ ذلك منذ اليوم الأول لوصول البابا ونأمل أن يستمر ، فالاستقرار هو أبو الاستثمار والعمل والقضاء على البطالة ، وبالتالي على الجريمة .
5. نكرر أن مؤسسة الفاتيكان للتعليم والصحة هي الأكبر عالمياً ، وعلى العراق أن يقرر كيفية الاستفادة من ذلك ، وأن يتفاوض من موقع الند ، أما بعض الأصوات _ المتوترة من كل شيء _ التي تتخوف من عودة زمن التبشير المسيحي باستغلال الفقراء ، فعليها إدراك أن هذا الزمن ذهب الى غيره رجعة ، وأن ما يصلح لقبائل أفريقيا البدائية ، لا يصلح للعراق ، و كل خطوة من هذا القبيل تبقى نتائجها مرهونة بإرادة المفاوض العراقي ، وليس بمنع العراق عن التعامل مع العالم .
♦️ملف_زيارة_البابا ( 5 )
خامساً : ماهو مشروع مسار إڤراهام .
* أشرت قبل قليل ، أن هناك بعض الأقلام انزلقت بشكل مؤسف الى التشكيك في مدى حكمة المرجعية ، وبقيت لأيام تعبر عن تخوفها من هذا اللقاء ، وتلمح بأن السيد كبير السن وطيب القلب وغير متابع للمشاريع الصهيونية الكبرى ، و لا يعرف معنى زيارة البابا الى أور ، وغير مطلع بخصوص علاقة الفاتيكان بالكيان الصهيوني ، وربما يسهم اللقاء في مخطط الفتنة الداخلية ( النجف vs إيران ) وبالتالي سيكون السيستاني صيداً سهلاً للمخططات الغربية ، تحت عباءة البابا.
* وبعد انتهاء اللقاء ، وصدور بيان المرجعية الدينية ، وحديثه عن أوضاع شعوب المنطقة وبالذات فلسطين ، وذكره لموضوع الحصار الاقتصادي في إشارة واضحة الى معاناة الشعب الإيراني ، تغير حبر هذه الأقلام ، وصار راكبوا الأمواج يمجدون بحنكة آية الله ووعيه ، وقال بعضهم : ( إن فطنة السيد السيستاني تستحق الثناء ) وكأن فطنة آية الله كانت مورد شك ، ثم أثبتت فاعليتها .
* وقد لاحظت أن الكثير من هذه الأقلام جعلت الركيزة الأساسية لإقناع الشباب بتخوفاتها ووجود مؤامرة في هذه الزيارة ، هي ( مشروع مسار إڤراهام والحج من أور ) ، ومن المتوقع أن يستمر الجدل حول هذه النقطة _ في دوائر محدودة على الأقل _ كلما تجدد الحديث عن هذه الزيارة ، أو عن مدينة أور ، فالأفضل أن نملك إحاطة كافية عنها .
وسألخص الموضوع في نقاط :
1. في سنة 1990 قام شاب مصري بور سعيدي من التيار الإسلامي ، إسمه سيد نصير _ و سيد إسم مصري متداول وليس لقب ذرية الرسول _ قام بقتل الحاخام اليهودي الأمريكي المتشدد وزعيم حركة ( كاخ ) الصهيونية ( مائير كاهانا ) ، أثناء خطبة له أمام جمع من مناصريه في أحد فنادق نيويورك ، حيث أرداه سيد نصير بعدة رصاصات من مسدسه ومات كاهانا على الفور ، وعلى أثر ذلك حكم على سيد نصير بالسجن المؤبد في أمريكا ، وعدت هذه أول جريمة قتل يرتكبها "متشدد" إسلامي على الأراضي الأمريكية .
* بعد عشر سنوات من السجن ، يبدو أن سيد نصير مر بانقلاب حاد وتغير جذري في أفكاره ، وبدأ سنة 2000 يرسل كتابات متتالية الى المسؤولين الأمريكيين عبر البريد ، وكرر إرسال أفكاره الى البيت الأبيض مرة بعد أخرى ، وكانت خلاصة هذه الأفكار هي دعوته الى قيام ( الدولة الإبراهيمية الفدرالية ) كحل أخير للصراع في فلسطين ، بأن يتخلى كل من المسلمين والمسيحيين واليهود عن مميزات أديانهم الثلاثة ويجتمعوا على المقدس المشترك بينهم جميعاً ، وهو النبي إبراهيم ، ويتم الاتفاق على استخراج مجموعة المشتركات الروحية والأخلاقية من الأديان الثلاثة ، وجعلها ديناً واحداً للجميع تحت راية الأب الأكبر للأديان النبي إبراهيم ( إڤراهام بالعبرية ) ، وهكذا ينتهي الصراع .
* رغم أن فكرة سيد نصير حول تخلي الأديان الثلاثة عن خواصها تبدو خيالية ، لكنها وجدت طريقها الى البيت الأبيض بالفعل ، ففي سنة 2001 قام الصحفي عن جريدة الشرق الأوسط محمد الشافعي بأجراء لقاء هاتفي مع سيد نصير ، و قال ( سيد ) فيه بأن ( ملف المشروع قد وصل الى يد السيدة الأولى _ هيلاري كيلنتون _ قبيل مغادرتها البيت الأبيض ) ، أي بعد انتهاء ولاية زوجها بيل كلينتون سنة 2001 .
وأضاف سيد : وصلتني ملاحظة من ديك تشيني نائب الرئيس _ نائب بوش الإبن في وقتها _ مكتوب فيها : ( قرأت رسالتك بنفسي ) .
2 . بغض النظر عن صحة كلام سيد نصير ، وهل وصلت دراسته حقاً الى البيت الأبيض ؟ وهل اقتنع أصحاب القرار بها ؟ وهل كان هو أول من تنبه لهذه الفكرة أم سبقه آخرون ؟ يبقى المؤكد أن العمل على هذا الموضوع بدأ بالفعل في سنة 2000 وفق تسلسل زمني أعرض أبرز محطاته :
♦️ملف_زيارة_البابا ( 6 )
* عام 2000 شهد البدايات العملية لتطبيق هذه (النظرية) من زاوية ذكية للغاية ، أقل ما يمكن وصفه بها ( استنساخ لمشينا _ الشيعة _ الى كربلاء في زيارة الأربعين ) حيث بدأ ( وليام يوري ) مدير مشروع التفاوض العالمي مع زملائه في جامعة هارفارد بدراسة مشروع ( الحج على خطى النبي إبراهيم ) ، من مكان ولادته الى مكان وفاته ( من الرحم الى القبر ) .
* بعض الروايات تذكر أن ولادة نبي الله إبراهيم كانت في حران ( ضمن محافظة أورفة التركية حالياً ) ووفاته داخل غارة في مدينة الخليل بفلسطين ، لذا فقد تم رسم هذا المسار للحج مشياً عبر مسافة الى 1000 كم تقريباً ، سميت ( مسار إڤراهام ) ، وتم تسويق هذا الحج بعدة شعارات أطلقتها مجموعة هارفارد منها ( التعرف على الناس ، التواصل بين الثقافات ، المشي لمسافات طويلة في الشرق على خطى إبراهيم وعائلته ، التفاوض من أجل السلام ، مساحة للقصص الإبداعية ، الحج من " لا " الى " نعم " ) وغيرها من الكلمات .
* في نفس العام 2000 انتشرت فرق بحثية على المسار المحدد لتدرس عينات من ردود أفعال السكان ، وتكتشف مدى تقديس الجميع للنبي إبراهيم ، لتؤكد النتائج مرة أخرى صحة الدخول من هذه الزاوية ، و لم تغفل دراسة هارفارد أن أغلب الروايات التاريخية تشير الى ولادة النبي إبراهيم في مدينة ( أور ) في العراق ، وأنه ربما قصد مدينة حران في أورفة هرباً من البطش ، وعليه فإن إضافة العراق الى المسار أمر لابد منه.
* عام 2005 تأسست منظمة جديدة تابعة لهيئة الأمم المتحدة بمبادرة مشتركة من تركيا وأسبانيا ، و حملت إسم تحالف الحضارات ( AOC ) ومقرها الحالي نيويورك ، ويمثلها حالياً ناصر عبد العزيز ناصر القطري ، وهدفها تشجيع التسامح بين المجتمعات و (الأديان) والعمل المشترك تحت شعار #OneHumanity أي ( إنسانية واحدة ) .
وقدم التحالف برنامج زمالة للقادة الناشئين في أمريكا الشمالية وأوربا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، الذين يشتركون _ بحسب البرنامج _ في عمل سلمي بين الثقافات والأديان ، واللافت للنظر عند البحث في قائمة المشاركين وجود ( مشروع مسار إڤراهام ).
* عام 2006 انطلقت مجموعة تجريبية من 25 شخص من أكاديميين وكتّاب ومتخصصي رحلات وقادة مجتمع مدني من الشرق الأوسط ، وبدأت رحلتها بمقاطع محددة من الطريق مابين أورفة و الخليل .
* في نفس العام 2006 عقدت الجولة الدراسية الأولى لمبادرة ( مسار إڤراهام ) في جامعة هارفارد ( ويبدو أنها كانت لتقييم نتائج التجربة الميدانية ) وقرروا أن خط المسار من أورفة الى الخليل ماهو إلا البداية ، وأن المسار سيمتد الى جميع المناطق التي مشى فيها إبراهيم _ حسب قولهم _ ومنها العراق ومصر والسعودية .
* عام 2008 بدأت مجموعة مكونة من 100 شخص بالحج الفعلي خلال هذه المسافة مابين أورفة والخليل ، وتكلموا عن الاستقبال الحار الذي تلقوه من عامة الناس ، وكيف كان الأهالي يطبخون لهم الطعام مجاناً ، حباً منهم للنبي إبراهيم ، وبدون معرفة أبعاد هذا الحج .
* عام 2013 وفي فترة تولي "هيلاري كلينتون" لوزارة الخارجية الأمريكية تم استحداث مكتب خاص في الوزارة يعنى بموضوع ( الدبلوماسية الروحية ) ويتخذ من موضوع الوحدة الإبراهيمية مادة أساسية لعمله .
* عام 2017 زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية ، برفقة صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر ، وبدأت جهود دبلوماسية لعقد اتفاق سلام مع الدول العربية أطلق عليه كوشنر ( إتفاق السلام الإبراهيمي ) أو اتفاقية إبراهيم للسلام ، وكانت محطة البداية هي الإمارات العربية .
* في نفس عام 2017 حاولت وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة والمعنية بمساعدة اللاجئين الفلسطينيين ، إدخال تعديل على المناهج الدراسية للأطفال الفلسطينيين ، يقضي بتبديل إسم مدينة القدس من ( عاصمة فلسطين ) الى ( المدينة الإبراهيمية ) ، لكن المحاولة لم جوبهت بالرفض .
* عام 2020 تم توقيع اتفاق السلام الإبراهيمي بين الإمارات والكيان الصهيوني ( إسرائيل ) ، وقال كوشنر في مؤتمر الكتروني عام 2021 : ( أن الاتفاق بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل على إقامة علاقات، والذي أطلق عليه اتفاق «أبراهام» أو «إبراهيم»، جاء نتيجة عام ونصف عام من الجهود الدبلوماسية المكثفة ) .
والخلاصة : أن جميع المبادرات التي ذكرناها من ( الدولة الإبراهيمية ) الى ( الدبلوماسية الروحية ) الى ( مسار إڤراهام ) ماهي إلا محاولات لتذويب الرفض العربي لإسرائيل الذي يرتكز بدرجة كبيرة على الموقف القرآني الصريح أن اليهود ( أشد الناس عداوة ) مما يجعل الدين حجرة عثرة أمام القبول بإسرائيل .
3. و قد يبدو للقارئ الكريم أن فكرة دمج الأديان الثلاثة فكرة جنونية ، ولكن مع ملاحظة الأساليب التسويقية في أوساط الشباب ، والشعارات التي تمت تغذيتها في عقولهم منذ سنوات وهي جميلة في وقعها وما يفهمه السامع منها ، مثل ( إعتنق الانسانية ثم اعتنق ما شئت من الأديان ) مع ملاحظة ذلك ، سيجد الباحث أن فكرة الدين الموحد مهما كانت خاوية المضمون ستجد عدداً من المؤيدين المنساقين وراء الشعارات .
فبحسب تقديرات سنة 2005 ، بلغ عدد المؤمنين بألأديان السماوية الثلاثة ، 3.6 مليار بما يشكل نسبة 54% من البشرية ، ومع هذه النسبة سيكون من السهل إقناع الأشخاص البسطاء أن الحروب كلها ستنتهي إذا انتهت خلافات هذه الأديان وتحقق الدين الموحد ، وعن هذا يقول أستاذ علم الفلسفة الأنگليزي جون هيك : ( إذا كان كل دين من هذه الثلاثة يرى نفسه الحق المطلق ، ألا يعني هذا تحول العالم الى جحيم لا يطاق؟)
* و يقول الصحفي موشيه جلعاد : ( قال لي ديفيد لانديس _ المدير الإقليمي لتطوير مسار إبراهيم _ بحماس بعد دقائق قليلة من لقائنا في تل بئر السبع : المشي لمسافات طويلة هو الشيء الحقيقي ، أي شخص يقول إننا _ مطورو مسار إبراهيم _ ساذجون لم يكتشف بعد قوة المشي لمسافات طويلة في الشرق الأوسط ) ، وما يقولوه لانديس له واقعية كبيرة ، فنحن الشيعة أقدر من غيرنا على فهم ما يعنيه ، إذ نرى كل سنة كيف أن المشي على طريق الأربعين قادر على تغيير الشباب بحسب التشكيل ( الموكب ) الذي ينظمون إليه ، ويمكننا تخيل النتائج الحتمية لإدخال الشباب البسطاء في برامج المشي لمسافة 1000 كم وسط الطبيعة الساحرة لتركيا وسوريا والأردن وفلسطين ، لأيام طويلة مع شباب من الجنسين من مختلف دول العالم ، ووفق برامج معدة سلفاً !!
( لاحظ أيها القارئ الكريم أنني هنا بينت خطورة المبادرة وفكرة الدين الموحد بالنسبة للخاضعين للبرنامج ، وإن كنت بعد أسطر سأقلل من قيمتها بالنسبة للوضع العام ).
♦️ملف_زيارة_البابا ( 7 )
والسؤال الآن : ما علاقة زيارة البابا بالدين الإبراهيمي أو مسار إڤراهام ؟
1. يبدو للقارئ الكريم أن ما سأذكره من تصرفات بابوية منسجم تماماً مع مشروع الدين الإبراهيمي الموحد ، ولكن الحقيقة أن فكرة ( التفاهم بين الأديان ) التي شاهدنا تجسيدها بصورة السيد السيستاني والبابا فرنسيس وهما يمسكان بيدي بعض ، مختلفة تماماً عن فكرة ( دمج الأديان ) التي تعني أن يتخلى آية الله عن حوزته ، وفرنسيس عن كنيسته .
فكرة التفاهم والمحبة بين الموحدين لله أتباع الأديان الثلاثة ، فكرة لها سوابق كثيرة في الكنيسة الكاثوليكية ، ومنها :
* عام 1986 جمع البابا يوحنا بولس الثاني ( ت 2005 ) أكثر من 120 رجل دين مسيحي ومسلم ويهودي ، للصلاة الموحدة في مدينة أسيزي في روما .
* عام 2001 قام البابا المذكور بزيارة مدينة دمشق ، ودخل المسجد الأموي وصلى أمام قبر القديس يوحنا المعمدان ( النبي يحيى لدى المسلمين ) ومن هناك دعا المسلمين والمسيحيين و اليهود للعمل معاً ، ويومها أصر على احترام عادات المسلمين فقام بخلع حذائه قبل دخول المسجد ، وقام بتقبيل القرآن الكريم ، وأصبح بذلك حديث الساعة والشخصية المحبوبة لدى المسلمين .
* وكانت الفاتيكان في نفس هذه الرحلة الرسولية _ عام 2001 _ قدمت طلباً رسمياً الى العراق للسماح للبابا بزيارة البلد ، فاعتذرت حكومة حزب البعث بذريعة أن الحصار الاقتصادي أنهك العراق وليس بإمكانه تنظيم الزيارة ، وقد فُهم جواب الحكومة كمحاولة للتأثير على البابا لاستخدام نفوذه الروحي وجلب التعاطف لحكومة صدام .
* عام 2004 وقبل وفاته بسنة واحدة ، أقام البابا يوحنا ( الحفل البابوي للمصالحة ) واجتمع فيه رجال دين من الأديان الثلاثة للعشاء سوية .
* والبابا الحالي ( فرنسيس ) لايزال مستمراً على نفس الطريقة ، والشواهد كثيرة ولا حاجة لتعدادها ، ولا علاقة لهذه النشاطات بأي دين موحد.
2. لا ننسى أن مدن الجنوب فيها عدد من العوائل والكنائس المسيحية ، فالبابا زار جنوب ووسط وشمال العراق ليرسل رسالة أن الوجود المسيحي في العراق ما زال حياً وعلى امتداد مساحته ، كما أن هناك الكثير من الآثار التي يعتز بها المسيحيون موجودة في أرض العراق ، ومثل هذه الرسالة لن تزعج الطائفة الشيعة التي هي "الأغلبية" في الجنوب ، بعد أن قدمت خيرة أبنائها دفاعاً عن المسيحيين .
3. إن آية الله الذي أمسك بيد البابا مؤمن بأن ( الدين عند الله الإسلام ) كذلك البابا يؤمن بأن الخلاص بالمسيح ، وكذلك الحاخامات اليهود يسعون ليل نهار لنشر عقيدتهم ، وكلما سعى رجال الدين في نشر وتوضيح معتقداهم ، كان ذلك عامل هدم لفكرة الدين الإبراهيمي الموحد.
4 . إن البابا بزيارته لآية الله ، وآية الله باستقباله للبابا ، أثبتا للعالم أن التفاهم والمحبة والسلام بين الأديان يمكن تحقيقه بالجلوس والحوار ، ولا معنى لسلخ الأديان الثلاثة وتقطيعها لنخرج بتركيبة دينية وضعها بعض الاشخاص المسحورين بهذا الخطاب ، وقد كان بيان مكتب آية الله في أعلى درجات الدقة عندما ذكر الإيمان بالله كعامل مساعد للإنسانية _ وليس العكس _ و جاء على ذكر الرسالات بصيغة الجمع فقال : ( ودار الحديث خلال اللقاء حول التحديات الكبيرة التي تواجهها الانسانية في هذا العصر ودور الايمان بالله تعالى وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها ) وقال مرة أخرى مؤكداً على فكرة تفاهم الأديان : ( كما أكّد على أهمية تضافر الجهود لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الانساني في كل المجتمعات، مبنياً على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الاديان والاتجاهات الفكرية )
وأما بيان الفاتيكان فقد تجده أكثر تأكيداً على ذلك ، حيث ورد فيه : ( شدد الأب الأقدس على أهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية حتى نتمكن ، من خلال تنمية الاحترام المتبادل والحوار ، من المساهمة في خير العراق والمنطقة. للبشرية جمعاء ).
5. لو كان لهذه الفكرة _ الدين الإبراهيمي _ أن تخدم إسرائيل بشكل دائم ، فكان يجب أن نرى حائط المبكى يغلق أبوابه ، قبل أن نرى ساحة القديس بطرس ، ومرقد الإمام علي يتوقفان عن استقبال الزوار ! فمادامت المليارات من البشر تقصد هذه الأماكن المقدسة لديها .
فلن تستطيع مبادرة مسار إبرهيم أخذ 3.6 مليار إنسان لغسل عقولهم بفكرة الدين الموحد ، فالواقع يقول أنها مجرد فكرة استفادت منها إسرائيل في فرصة من الزمن ، ولن تستطيع الصمود لوقت طويل ، رغم خطورتها التي ذكرتها سابقاً ، ولهذا فقد أشار آية الله في بيانه الى أن المشكلة الأساس هي في مطامع الدول الكبرى ومصالحها ، بينما دور الدين ورجاله نشر السلام ، وليس العكس ، فقال : ( وأشار سماحته الى الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، وما هو المؤمل منها من حثّ الأطراف المعنيّة ـ ولا سيما في القوى العظمى ـ على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة ) .
6 . على عكس راكبي الأمواج والمشككين بحكمة آية الله من المحسوبين على طائفته ، فإن البابا كان يعلم أن زيارته للسيستاني ستتيح للأخير الحديث على المستوى العالمي ، وهو بالتأكيد قرأ ودرس بيانات هذا الرجل قبل أن يدخل ذلك الزقاق ، ومع ذلك فقد جاء وجلس وشكر الشيعة _ وهي طائفة _ بشكل صريح ، وأما آية الله فقد تكلم بما توقعه البابا ، وقال : ( وتحدث سماحة السيد عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الاساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوص ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة )
هذا وقد وصلت رسالة شكر من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الى سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ، في اليوم التالي للزيارة ، وقد نشرها مكتب سماحته في هذه الليلة التي أنهيت فيها كتابة الملف بعد ستة أيام من الزيارة ، سائلين الله تعالى أن يحفظ سماحته حتى ظهور المولى صاحب الزمان أرواحنا فداه .
الكاتب إيليا إمامي
النجف الأشرف
12 / 3 / 2021
https://t.me/AiliaEmame1185

تعليقات
إرسال تعليق