ثلاثة أشهر حكيمية |إيليا إمامي


ثلاثة أشهر حكيمية

الكاتب #Ailia_Emame

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


منذ اللحظة التي صعقني فيها صوت الانفجار داخل الصحن الشريف .. عرفت أن هذا الألم لن يتوقف .. وأن ما أخذه هذا الرجل من روحي وعقلي وقلبي وأنا في مقتبل الشباب .. لن يعود أبدا .


لذا جلست على تراب قبره .. أو قبر ذلك الكف الطاهر المتبقي منه .. وكتبت بأصبعي على التراب ..


أبا صادقٍ إن شأنَ الزمان

إذا طالَ أن لا يطولَ الألم 


ولكن يومَكَ مهما انتَأى

ستبقى به نارُنا تضْطَرم


أننساكَ لا والذي حُزنُهُ

بدمعٍ غزيرٍ سيُبلي القِدَم



* ذكرياتي مع هذا الرجل ترتبط بالنجوم الصافية .. حيث هدوء القرية النائية في الريف .. بعيداً عن أضواء المدينة ( على قلتها في زمن النظام السابق ) فالأضواء تحجب سطوع النجوم في السماء .. لذا فقد كان ليل الصيف والشتاء مزيناً بالنجوم في قريتنا ذات الفوانيس الخافتة .. فكنت أصعد الى السطح مصطحباً ذلك الراديو القديم .. ذي البطارية المثقبة من كثرة العض والضرب بالطابوق .. وأحاول التقاط موجات إذاعة طهران أو إذاعة صوت العراق .. عسى أن أستمع الى صوت السيد محمد باقر الحكيم .. ذلك الصوت الذي كان يستدر دموعي وهو يختلط مع موسيقى فيلم ( بوى پيراهن يوسف ) للموسيقار مجيد انتظامى .. والتي تعتبر هي وموسيقى ناى نوا للموسيقار حسين عليزادة من أشهر المقطوعات المستخدمة في إذاعة طهران ولذا فهي مرتبطة بذكرياتنا منذ الصبا حيث كان يصلنا بث الإذاعة بشق الأنفس .



* كنت في غاية الحماس والتأهب لاستقبال السيد الشهيد عندما دخل العراق في 2003 .. وأتذكر نزوله من السيارة ودموعه تجري شوقاً وحباً للجماهير التي تحيط به .. وقد كنت وسط الزحام المتلاطم .. ومن حبي له قلت بصوت مرتفع سمعه هو بشكل جيد : سيدنا هذا الشباب العراقي طاقة ومستعدين لخدمتك لتتصور صدام گدر يكسرنا .


وعندها التفت السيد الى ناحيتي ونظر إلي وابتسم ثم أشار بيده وقال بصوته المبحوح في وقتها : تعال أقول لك شيء مهم .. تعال .


وما تأسفت على شيء كتأسفي على ضياع هذه الكلمة .. حيث حال بيني وبينه الموج البشري وعلمت أني خسرت كخسارة ابن نوح وفقدت تلك السفينة.


* وبعد استقراره في النجف .. لا أتذكر أني فوّتُ صلاة واحدة خلفه طيلة الأشهر الثلاث التي قضاها في النجف .. ولست أدري هل نية الجماعة أم شوقي لإمامها كان أثر استحكاماً في نفسي .


وفي كل ليلة أصلي خلفه .. ثم أقترب منه وأسلم عليه وأريد أن أذكره بقولي له يوم الاستقبال و الكلمة التي أراد أن يقولها .. ثم أخجل من ذلك لكثرة المسلمين عليه والسائلين والضيوف .. حتى أنه كان أحياناً يسمع من شخصين في وقت واحد فيمسك بيد أحدهما بقوة ليخبره بهذه الحركة أنه غير غافل عنه .. بينما هو يستمع للآخر حتى ينتهي .. فيعود للأول .


* في الليلة الأخيرة التي صليت مغربها خلفه .. وكانت قبل شهادته بليلتين .. استجمعت جرأتي لأطرح سؤالاً منعني الخجل منه لثلاثة أشهر ( ماهو الشيء المهم الذي أردت قوله ) ؟


أمسك السيد بيدي وهو مبتسم وقال ( ماشاء الله دائماً أشوفك هنا ) .. فجاء شخص ثالث ودخل بشكل مباشر بحيث لم يترك مجالاً للسيد الشهيد .. وأقتحم الواجهة كما يقال وألقى بسؤاله : سيدنا هل أنت هنا امتداد للسيد الخامنئي ؟

وبينما كان السيد يعصر يدي كنت أملي عيني من رؤيته .. ولا أعلم أنها المرة الأخيرة التي سأكون بهذا القرب منه .. ويا لهف روحي .. هل هي نفس اليد التي تبقت من جسده الشريف .. أم الأخرى ؟ 


* إلتفت السيد الى السائل قائلاً : ماذا تقصد بالامتداد ؟ تقصد أني وكيله الشرعي أو ممثله الخاص ؟ فرد السائل : نعم نعم .


فأجاب السيد : لا أبداً .. سماحة السيد له وكلاء .. ولكننا على تفاهم وتنسيق ورضا إن شاء الله .. وأتذكر أنه قال كلمة ( رضا ) مع ابتسامة .. ثم التفت إلي وقال : تجي إن شاء الله ؟ وقد عرفت أن السيد كان يتصور بأني قادم للسلام فقط ولم تكن عندي مسألة .. فقلت : بخدمتكم سيدنا .


* سافرت خارج النجف ليومين .. وأنا أقول لنفسي لا بأس .. بعد صلاة الجمعة أعود الى هنا وأصلي وأسأله مجموعة أسئلة كانت تشغلني ومن ضمنها الكلمة التي قتلتني فضولاً .


ولكن صوت الانفجار كان أقوى من أمنياتي .


* وحده وصف الأشلاء المقطعة والسيارات المحترقة .. والجدران المتهاوية .. كان قصة ، وتلك السيارات البيضاء الملتهبة بنيران الحقد البعثي الأمريكي كانت قصة أخرى .


* لم تكن عيوني تصدق .. ولا وجداني يستوعب .. أن الإنسان قد يرى أغلى ما لديه تحت النيران أمامه .. ثم يجبن أو يتراجع !

حقاً خجلت من نفسي أنا ومن معي .. حيث انتظرنا لدقائق حتى أخمدت سيارة الأطفاء النار .. فهجمنا على السيارة وقلبناها عسى أن نرى معجزة ما .. ولكن قرار الله كان أن يغيب الحكيم في هذا الظرف العصيب .. المفتقر للحكمة .


* لقد بقيت لأيام مختل التفكير ومضطرب العواطف .. فصرت أمني نفسي بأنه خرج سالماً وسيعود بعد مدة ..


حيث أن علمائنا عبر التاريخ مروا بجميع حالات وأطوار الأئمة عليهم السلام من قتل وسجن وسم وإقصاء ( إلا الغيبة ) .. ثم تداركت ما بقي لدي من عقل وطردت هذه الفكرة من رأسي .


* و منيت نفسي لفترة أن الظهور لن يستغرق أياماً أو شهور .. حيث هذه رواية قتل النفس الزكية وسبعين من الصالحين في ظهر الكوفة .. تداركت ما بقي لدي من اعتقاد بالروايات .. واستعذت بالله من التوقيت .


* ومنيت نفسي أن أراه في رجعة أو إحياء موتى .. أو أي شيء يطفىء نار الفقد والضياع ! وعلمت أني مكابدها لا محالة .


يومها آذيت قلب والدتي حيث كانت تبكي الليل والنهار لما تراه من حالتي .. وأنا أردد وأكتب الشعر حيث كانت به سلوتي .


فقلت أبيات مطلعها :

ثلاثة أشهرٍ يبن الهداةِ 

ملكتَ بها القُلوبَ مدى الحياةِ 


وقلت :

حزني عليكَ وقد مضيت طويلُ

رجلٌ فديتكُ والرجالُ قليلُ


جزعي جميلٌ ياحبيب ولا أرى

من يجرعُ الصبرَ الجميلَ جميلُ


* تلك الفترة كانت لحظة فهمي لواقع البلاء الذي نحن مقبلون عليه وممتحنون به .. وتعلمت الدرس جيداً وفهمت الرسالة .. بأن اختبارات الله للإنسان وللمجتمع لا سقوف لها أبداً .. وأن العامل لله والمجند لنصرة دينه يجب أن يشد قلبه ويحكم أركانه ويكون كما قال مولانا الأمير صلوات الله عليه ( تزول الجبال ولا تزل ، عض على ناجذك ، أعر الله جمجمتك ، تد في الأرض قدمك ، أرم ببصرك أقصى القوم ، وغض بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه ).









https://t.me/AiliaEmame1185

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عشرون سؤالا عن الشيخ محمد اليعقوبي

ملف زيارة البابا |ايليا امامي

جولة في رأس سياسي عراقي. الكاتب #Ailia_Emame